إعلان منتصف المقال
شهدت المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين حركات تمرد شعبية، أطلق البعض عليها ثورات، وبعض آخر أطلق عليها انتفاضات، وقطاع كبير من الأحزاب والمثقفين حتى اليساريين منهم أطلق عليها "مؤامرات".
واختلفت الآراء باختلاف الوعي الفكري لمفهوم الثورة وطبيعتها في مراحل محددة من تاريخ الأمم، وبالتالي اختلف الآراء حول ما شهدته ثورات الربيع العربي نتيجة حالة الجمود الفكري والسياسي الذي أصاب الأحزاب العربية التي مازالت تعيش على أحلام الشعارات البراقة والخطابات الرنانة، ولا ترى أن العالم تغير ولا تبذل جهدا في البحث والتحليل والتعمق في دراسة الدوافع والخلفيات والأسباب، ومستوى نسبة الفقر والبطالة والنهب والفساد وشراسة سيطرة حيتان المال وحالة الاهتراء في بنية السلطة.
أيا يكن الحراك الشعبي الذي شهدته بعض الأقطار العربية، وهدد بالتمدد نحو أقطار أخرى، فقد كان لهذا الحراك دوافعه وأسبابه وخلفياته، فحالة الفقر وارتفاع نسبة البطالة واسعار السلع إلى جانب تفاقم حالات الفساد والنهب والديون الخارجية بالتزامن مع حالات القمع والاستبداد والجمود والانهيار المالي والاقتصادي، شكلت دافعا لصرخات الشعب في ميادين العواصم والمدن وطالبت بإسقاط النظام بعد أن فقد الشعب قدرته على التحمل وأقفلت في وجهه كل أبواب الأمل ولم يبق أمامه إلا باب الثورة في وجه أنظمة وطبقات النهب والفساد والعجز والاستبداد.
وإذا كانت ثورات "الربيع العربي" كما أطلق عليها، قد حققت العديد من الأهداف وفي مقدمتها الكشف عن حجم الفساد والنهب والعفونة والتآكل الاهتراء داخل الأقطار العربية وهزت عروش أنظمة وسلطات اعتقدت انها ثابتة وخالدة وقدر لا يمكن إزاحته، فقد حركت الثورات الشعبية العربية طاقات الشعوب وقدراتها في الميادين بعد جمود وركود وخوف وسكون استمر لعقود من الزمن.
و دفعت الثورات العربية قطاعات الشباب إلى الميادين بعد أن أنهكتهم الهجرة بقوارب الموت، والمخدرات والكسل والاستسلام واللامبالاة، ودفعتها نحو ميادين الحراك السياسي بعد استسلام للأمر الواقع دام طويلا.
صحيح أن الثورات الشعبية العربية خاصة بعد العام 2011 حققت بعض الأهداف لكنها لم تتمكن من الانتصار، فقد أسقطت رؤساء لكنها لم تسقط نظام، أسقطت عروش لكنها لكنها لم تصنع البديل الثوري ولم تبدل النظام الأمني والاقتصادي والسياسي بنظام ديمقراطي عادل وسرعان ما عاد هيكل النظام إلى سابق عهده مع اصلاحات بسيطة ومتواضعة بل كان البديل للرئيس الفوضى والاقتتال والتفكك وانفجار الفكر الطائفي الذي كان أصلا من فعل السلطة وأحزابها، لكنه كان مكبوتا بقوة القمع والسيطرة.
لماذا انطلقت الثورات ولماذا لم تنتصر؟
التدقيق بالحالة العربية التي كانت سائدة قبل العام 2011 يمكن له الاطلاع على تفاقم حالات البطالة وغلاء الأسعار ارتفاع الديون الخارجية والنهب والفساد، ما انعكس ذلك على الوضع الشعبي فقرا ويأسا وإحباطا والدفع للهجرة بقوارب الموت بين القارات، وكما ذكرنا كل ذلك شكل دافعا للثورات الشعبية، وإذا كانت هذه الحالات قد تفاقمت اليوم، فذلك نتيجة هزيمة الثورات وانتصار النظم والطبقات الفاسدة، ما جعلها تستأسد في قمع الشعوب مجددا وتطوير أساليب نهبها ومواصلة سياسة القمع والتنكيل والنهب.
لأن انتصار الثورات الشعبية العفوية يتطلب وعيا وتنظيما تقوده الأحزاب والقوى والنقابات الجادة والقادرة، أحزاب تعبر عن مصالح الشعب وليس أحزابا عينها على السلطة وبالتالي إبقاء النظام.
وانتصار ثورات الشعوب يتطلب شروطا لم تتوفر بالثورات العربية وكانت الثورات العربية عفوية تمكن العدو الخارجي والداخلي من سحقها واختراقها وتشويهها وحرفها عن مسارها.
وأولى شروط الانتصار هي أن تكون بقيادة أحزاب وقوى ونخب وأطر النقابية تعبر عن مصالح الشعب تعمل هذه الأحزاب والأطر على الانخراط في صفوف الشعب وتنظيم صفوفه ورفع مستوى وعيه وتطوير نضاله اليومي وحمايته من أي اختراق معادي.
فالشعوب العربية التي انطلقت في الميادين بشكل عفوي وغير منظم وكان دور الأحزاب والأطر السياسية والنقابية ضعيف وغائب في الكثير من الاحيان وإن وجدت هذه الاحزاب فهي أحزاب قديمة ومهترئة ومفككة ومصابة بالشيخوخة ولم يعد باستطاعتها قيادة ثورة شعب وتطوير النضال اليومي في مواجهة سلطات تمتلك القدرة على التشويه والقمع والتنكيل والاختراق وشراء الذمم.
وإذا كانت الشعوب قد انطلقت بثوراتها بشكل عفوي وهذا أمر طبيعي ، فقد كان على القوى والأحزاب العربية الحية والقادرة والصلبة أن تتحمل مسؤولياتها لتقود الشعب في الميادين ورفع مستوى وعيه وتنظيم صفوفه وتطوير نضالاته اليومية، فقيادة الأحزاب الثورية الصلبة هو من أهم وأبرز شروط انتصار الشعوب بعد أن تمكنت هذه الشعوب من كسر جدار الخوف وانطلقت في الميادين إسقاط النظام.
اليوم، الوضع لم يتغير كثيرا، فحالات الفساد والقمع والعجز والنهب والافقار ونسبة البطالة وغلاء الأسعار تتفاقم بصورة خطيرة وستكون هناك لحظة أخرى يفقد فيها الشعب قدرته على التحمل والتعايش مع الذل والقهر، ما يفتح أمام الشعب مجددا خيار التمرد والثورة .
وإذا كان ذلك حتميا فمن الضروري أن تستنهض الأحزاب والقوى والأطر الحية والمعبرة عن مصالح الشعب والوطن طاقاتها وقدراتها بعيدا عن الفنادق ومؤتمرات الكلام والخطابات إلى طاولات حوار ودراسة الواقع بشكل دقيق والعمل على :
= تشكيل الأطر والاحزاب القادرة على قيادة نضال الشعوب في ميادين الثورة، ليس لإسقاط الرئيس فحسب، بل لإسقاط النظام وتشكيل البديل الثوري بإقامة نظام ديمقراطي سياسي واقتصادي وأمني قادر على حماية الوطن والمواطن وتأمين العدالة الاجتماعية ولقمة العيش وفرص العمل بعيدا عن الاذلال.
= استنهاض الطاقات الشعبية وتعزيز إرادتها، ووعيها ودفعها للإنتاج والعمل.
= إطلاق حلقات الحوار والنقاش بعيدا عن اليأس والاحباط والأعذار.
ربما الثورة فعل شعبي عفوي ولها دوافعها، لكن لانتصار هذه الثورة شروط توفرها الأحزاب والقوى السياسية والأطر النقابية، ولكن ليست هي الأحزاب المهترئة والمترهلة
والضعيفة والمفككة، بل هي الاحزاب والاطر الثورية الصلبة والقادرة والمستعدة لخوض ميادين الثورة ودفع تكاليفها.