إعلان منتصف المقال
السبت، 10 أيلول، 2022
لا يمكن إسدال ستار العقاب على مجزرة صبرا وشاتيلا، ولو بعد مرور عقود من الزمن عليها. المجزرة التي تعدّ إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ومعاقبة الجناة تبقى ممكنة ولو بعد حين. لكن العبرة دائماً تكمُن في تحرير محافل العدل من سطوة الحسابات السياسية للقوى الغربية لتفعيل آلية معاقبة إسرائيل وشركائها وكل من خطّط وحرّض ونفّذ المجزرة، وكل من حاول تضليل التحقيق وتجهيل الفاعل وتبرير مسلسل القتل الوحشي الذي دام أياماً، وحوّل مخيماً للاجئين من فلسطين المحتلة الى مقبرة جماعية.
لم تشرق الشمس على أبناء صبرا وشاتيلا ولم يبسط النهار نوره عليهم في السادس عشر من أيلول 1982. وحشٌ بشري ابتلع الشمس قبل بزوغها، وسكب كل نار بربريته وهمجيته، عن سابق إصرار وتخطيط، على كل أبناء تلك الرقعة الجغرافية من المدنيين العزّل، ذات الأغلبية الفلسطينية. أما من نجا بأعجوبة، وهم قلة، فقد بقي ذاكرة بلا روح، تجترّ يومياً آلام صور المذبحة التي استمرت أكثر من 48 ساعة، حاصدةً آلاف الشهداء الذين قتلوا بأبشع الطرق وحشية ومئات المفقودين والمخطوفين الذين اضيفوا الى الآلاف من مفقودي الحرب الاهلية.
وقعت المذبحة في سياق تاريخي مشؤوم. كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها، عندما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان، وحاصر بيروت واستهدفها بقصف عنيف من الدبابات والطائرات. في منتصف آب، تم الاتفاق على خروج المقاومين الفلسطينيين ومسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. تمت العملية تحت إشراف قوة متعددة الجنسيات (إيطالية وفرنسية وأميركية)، وكان مقرراً أن تبقى في ساحة المعركة لثلاثين يومًا من أجل ضمان أمن المدنيين الفلسطينيين بعد رحيل منظمة التحرير. إلّا أن هذه القوات سرعان ما انسحبت بعد إنجاز عملية ترحيل المقاتلين الفلسطينيين في الأول من أيلول 1982.
في 23 آب، كان مجلس النواب اللبناني قد انتخب زعيم ميليشيا «القوات اللبنانية» بشير الجميل رئيساً للجمهورية. في 14 أيلول اغتيل الجميل في انفجار ضخم هزّ مقرّ حزب الكتائب في الاشرفية. شكّل الاغتيال ذريعة لاقتحام الجيش الإسرائيلي، في صبيحة اليوم التالي، المنطقة التي كانت تسمّى «بيروت الغربية»، بحجة «المحافظة على الأمن» فيها، فأحكم الطوق على المخيمات الفلسطينية وأقفل كل المعابر المؤدية إليها، ومنع السكان من المغادرة. صبيحة السادس عشر من الشهر نفسه، اشتدّ القصف على مخيم شاتيلا، وخصوصاً على مدخله الجنوبي. وبدأت المذبحة.
تحتَ إشراف الجنود الإسرائيليين وحمايتهم، دخل عناصر من ميليشيات «القوات اللبنانية» و«حراس الأرز» و«جيش لبنان الجنوبي» إلى المخيم وأفرغوا وحشيتهم على مدى ثلاثة أيام تقريباً، بحق سكان مخيم شاتيلا ومنطقة صبرا وبعض الشوارع المجاورة، ومارسوا أبشع أنواع التعذيب الذي لم يستثنِ أحداً: أطفال قُطعت رؤوسهم، حوامل بقرت بطونهن، نساء اغتصبن قبل ذبحهن، وبُترت أيديهن لسرقة حليهن، شيوخ وشباب قتلوا وتكدّست أجسادهم في زواريب المخيم وأزقته الضيقة، وهُدمت المنازل بالجرافات على رؤوس قاطنيها، وخُطف كثيرون أكد شهود أنهم نقلوا في شاحنات إلى خارج المخيم، وعُثر لاحقاً على جثث بعضهم فيما لم يُعرف مصير الباقين حتى اليوم. ولم تسلم المستشفيات من المذبحة، إذ اقتحم المسلحون في 17 أيلول مستشفى عكا، وقتلوا عدداً من الأطباء والممرضات والمرضى.
ليس هناك رقم دقيق لضحايا المذبحة. بلغ عدد الشهداء بحسب السلطات اللبنانية 1962 تم التعرف على جثث 762 منهم، فيما دُفن 1200 آخرين بمبادرة من الاهالي وتم تسجيلهم لدى الصليب الأحمر اللبناني. وإلى هذا الاحصاء الرسمي، هناك ضحايا دُفنوا في مقابر جماعية حفرها المهاجمون ولم يتم التعرف الى جثثهم، وآخرون دُفنوا تحت أنقاض البيوت التي جرفتها الجرافات، إضافة إلى المفقودين الذين بلغ عددهم، بحسب الصليب الأحمر، 359 شخصاً. وقدّر مجموع الضحايا بحوالي 3500، بينهم فلسطينيون (75%) ولبنانيون (20%) ومن جنسيات أخرى (5%). بينما ادعى جيش العدو الإسرائيلي أن عدد الضحايا لا يتجاوز 800. كما سعى الإسرائيليون وحلفاؤهم إلى إختراع تبريرات، وإختلاق سيناريوهات تكذب الحقائق، محاولين التنصّل من المسؤولية والتخفيف من وطأة المشاهد المرعبة والصادمة التي كانت بدأت تتسرب إلى العالم.
1. لجنة كاهان: تبرئة القيادات الإسرائيلية
في 28 أيلول 1982، وتحت ضغط الشارع الإسرائيلي، اضطرت حكومة العدو لإسرائيلي إلى تشكيل لجنة للتحقيق في «الفظاعات التي ارتكبتها وحدة من القوات اللبنانية ضد السكان المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا»، وسميت «لجنة كاهان»، نسبة إلى رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا القاضي يتسحاق كاهان الذي ترأس اللجنة.
تقرير كاهان الذي صدر في شباط 1983، برّأ كبار المسؤولين الإسرائيليين، سيّما رئيس الوزراء ووزير الحرب ورئيس هيئة أركان الجيش، من المسؤولية المباشرة عن إرتكاب المجزرة، زاعماً أن هؤلاء لم يكونوا على دارية بما يحدث، ومنكراً أي دور للجيش الإسرائيلي في المجزرةش. واكتفى التقرير بتحميل المسؤولية الشخصية إلى وزير الحرب آنذاك آرييل شارون، لتجاهله «احتمال خطر سفك الدماء والانتقام»، ما اضطره مع تصاعد الضغوط إلى الاستقالة من منصبه كوزير للدفاع فقط، لكنه بقي وزيراً بلا حقيبة.
ويخيل لبعض قارئي تقرير كاهان أن إسرائيل لم تكن تحتل بيروت وضواحيها وتحكم السيطرة على كل مفاصل العاصمة وقت وقوع المجزرة.
2. لجنة جرمانوس: الجناة «أشباح»
رغم كل الأدلة على ضلوع عناصر من ميليشيات لبنانية في المجزرة بالإشتراك والتنسيق مع جيش العدو الإسرائيلي، إلا أن التقرير اللبناني الرسمي، أو ما يعرف بـ«تقرير جرمانوس» (نسبة إلى رئيس اللجنة المدعي العام العسكري أسعد جرمانوس)، حيّد هؤلاء عن أي مسؤولية جنائية، ولم يتطرق إلى مسؤولية جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما يثير كثيراً من الشكوك حول مصداقيته.
صدر التقرير بعد 11 يوماً من المذبحة، وبحسب الباحثة بيان نويهض الحوت في كتابها عن المجزرة «أن حكايته، ترافقت، منذ صدوره، مع موضوع السرية التامة، وخصوصاً أن القوات اللبنانية التي اتهمت بالمجزرة باتت المسيطرة على أجهزة الحكم بصورة عامة. وهكذا فإن التقرير لم ينشر في أعقاب المجزرة، وكذلك لم ينشر خلال العشرين عاماً التي تلت المجزرة. كل ما نشر منه كان مقتطفات في كل من الصحافة الإسرائيلية والصحافة اللبنانية».
التقرير يدعي ان الميليشيات اللبنانية لم تكن على علم مسبق بما حدث، كما لم يثبت صدور أي أوامر من قيادة هذه الميليشيات إلى مقاتليها للمؤازرة أو الاشتراك في القتل. واعتبر أن هناك عناصر من غير الجيش الإسرائيلي، وربما من عناصر الحدود أو غيرها من المتضررين جرّاء ما سماه التقرير «التجاوزات الفلسطينية» خلال الأعوام السابقة. وبدا التقرير وكأنه يتهم «أشباحاً». ورغم أن المجزرة حصلت على أرض لبنانية وسقط ضحيتها عدد كبير من اللبنانيين، إلا أن التحقيق طالب بالتريث في الملاحقة القضائية ريثما يتمّ تحديد المرجع القضائي الصالح، بذريعة أنه لم يتم الفصل بعد بين الأعمال الحربية والأعمال الفردية التي أدّت إلى المجزرة.
3. التحقيق الدولي: أدلة وإثباتات وتوصيات..
كانت ردة فعل المجتمع الدولي على مذبحة صبرا وشاتيلا مخجلة، إذ اكتفى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإدانة «المجزرة الإجرامية بحق المدنيين الفلسطينيين في بيروت» (قرار رقم 521، 19 أيلول / سبتمبر 1982)، من دون أي إجراء لملاحقة الجناة.
أما الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تتسم صلاحياتها بتقديم التوصيات من دون أن تكون لها قوة تنفيذية الزامية، فقد اعتبرت في 16 كانون الأول 1982 أن المذبحة «من أعمال الإبادة الجماعية» (القرار 37/123)، وطالبت بعض الأعضاء بإنشاء سلطة تحقيق رسمية للأمم المتحدة، لكن من دون جدوى.
أسس عدد من الخبراء الدوليين، معظمهم من المحامين، «لجنة دولية للتحقيق في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي المبلغ عنها أثناء غزوها للبنان»، رأسها شون ماكبرايد، رئيس مكتب السلام الدولي في جنيف. إستندت اللجنة في عملها بشكل أساسي إلى اتفاقية جنيف الرابعة، لتشير إلى أن «السلطات الإسرائيلية تتحمل مسؤولية قانونية جسيمة، كقوة محتلة، عن المجازر في صبرا وشاتيلا». وأكّدت أن لديها «الكثير من الأدلة على أن إسرائيل شاركت في التخطيط والتحضير للمجازر، ولعبت دورًا تسهيليًا في عمليات القتل الفعلية» (ماكبرايد، 1983)، كما وصفت الغزو الإسرائيلي بأنه «إبادة ثقافية» أو «إبادة جماعية»، واعتبرت أنه يمكن إثبات «ادعاء التدمير المتعمد للحقوق الوطنية والثقافية وهوية الشعب الفلسطيني ويشكل ذلك شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية».
ورغم إثبات كل هذه الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، لم يتحرك مجلس الامن الدولي. وهذا ليس مستغرباً على أية حال، نظراً إلى تركيبة المجلس المؤلف بأغلبية أعضائه من دول داعمة لإسرائيل بشكل مطلق.
يذكر أن المحاولة الجدية الوحيدة في هذه القضية لمعاقبة الجناة كانت الدعوى التي رفعت أمام القضاء البلجيكي عام 2001، عندما كانت لهذا القضاء صلاحية ملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن جنسيتهم ومكان إقاماتهم. إلا أن هذه القضية أدت الى أزمة دبلوماسية بين إسرائيل وبلجيكا، واستجابت الأخيرة في نهاية المطاف للضغوط الإسرائيلية، فعدلت القانون بمفعول رجعي، وأقفل الباب أمام ملاحقة ارييل شارون قضائياً.
قانون العفو لا يمنع الملاحقة
الجرائم التي ارتكبت وتم توصيفها بأنها جرائم إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية لا يمر عليها الزمن. هذا ما نصت عليه «إتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية (قرار الجمعية العامة 2391 ألف (د- 23) 26- ت2 1968»، إذ إعتبرت أن جرائم الحرب (المعرّف عنها في النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ، وإتفاقية جنيف) والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية (المعرف عنها في نظام محكمة نورمبرغ، والأعمال المنافية للإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية)، هي أخطر الجرائم في القانون الدولي، ما يمنع سقوطها بالتقادم. كذلك نصت الإتفاقية على عدم سريان أي تدبير لا يكفل عدم سريان التقادم على الجرائم المشار إليها. ويعني ذلك أن قانون العفو العام الذي صدر بعيد الحرب الأهلية في لبنان، لا يفترض ان يشكل عقبة امام الملاحقة القضائية للضالعين في مجزرة صبرا وشاتيلا كما يزعم البعض.
«ينبغي القضاء على القسم الجنوبي من بيروت» (من ملف : العدد الثالث والثلاثون من «القوس)
كشف معلّق الشؤون الأمنية الإسرائيلية رونين برغمان، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» في حزيران الماضي، وثائق ومعطيات سرية تشير إلى أن اجتماعا عقد بعد يومين من وقوع المذبحة في بيروت بين قادة العدو وقادة ميليشيات لبنانية، هدفها نسج روايات وأكاذيب، محاولين محو بصماتهم عن المجزرة، ومن بينها، الزعم أنه لدى دخولهم المخيم كانت تجري معارك داخله، بهدف الإيحاء بأن قسماً من الضحايا قتلوا بنيران إشتباكات داخلية في المخيم. وأهم ما كشفه بيرغمان هو الخطط التي كانت تُرسم بين رئيس أركان جيش العدو، رفائيل إيتان، وحزب لبناني قبل إنتخاب بشير الجميل لإحتلال بيروت في عملية عسكرية أسموها «الشرار»، وقيادة شارون وإشرافه على التخطيط للمذبحة وتنفيذها، إذ أنه قال في 11 تموز 1982: «ينبغي القضاء على القسم الجنوبي من بيروت (حيث توجد المخيمات الفلسطينية ومنظمة التحرير) يجب القضاء على كل ما يمكن القضاء عليه وتدميره من أساسه». يعني ذلك دحض المزاعم بأن المجزرة حصلت كردّة فعل على إغتيال الجميل. بل بدا ان الهدف هو القضاء على الفلسطينيين حماية لأمن «إسرائيل» ومحاولة لطمس الوعي الفلسطيني واللبناني تجاه القضية الفلسطينية.
المصدر: سوزان هاشم - جريدة الأخبار