تمكن حسني مبارك و عائلته و حاشيته و ضباط جيشه و زعماء حزبه و مناصريه ،
بقدرة عاليه من الدهاء و المكر من القضاء على الثورة المصريه و الاقتصاص من قادتها
و ابرز نشطائها . كادت تلك الثوره ان تمثل نموذجا حضاريا لكل الثوريين ، لما تميزت به
من قدرة تنظيميه ، و تحقيق الهدف بسلميه ، و الانضباط رغم الكثافة العدديه
و اختلاف القوى المشاركه . فشل النظام في القضاء على ثورة 25 يناير بقوة الجيش
و الشرطه و المخابرات و البلطجيه . و لم تحقق وعوده و تكتيكاته السياسيه
غاياتها في كبح جماح ابناء الشعب المصري المتمسك بالتغيير و انهاء النظام . و لم
يتمكن من استمالة عطف الجماهير الثائره بخطبه التي تذكر بتاريخه " النضالي "
و حبه للوطن و تضحياته التي لا حصر لها ! كل تلك الخدع لم تحقق الغاية في وقف
الثورة التي كانت تتعاظم يوما بعد يوم و تتوسع المشاركه الجماهيريه و النقابيه من
فئات الشعب المختلفه . فكان الخيار الوحيد امامه هو التنحي مع الحفاظ على السلطه
برجالاتها التقليديين و بسياساتها الداخليه و الخارجيه كما هي بلا تغييرات جوهريه .
كانت تلك الحركة الذكية هي بداية انطلاقة الثورة المضادة ، و تفكيك صفوف
المعارضه . وإدخالها في خلافات كبيرة سياسيه و فكريه .كان من ابرز
نتائج الثوره المضادة اختلاق عدو وهمي " ارهابي" لا يريد الخير لمصر
و شعبها . يريد الاستئثار بالسلطة و التفرد بجني المكاسب التي حققتها الثوره !
لهذا يجب ان تنصب كل الجهود لمواجهة هذا العدو المحتمل . كانت هذه اول و اخطر
انحرافات الثوره عن مسارها التغييري . و تحت هذه الذريعه استبيحت الدماء و الاعراض
و انتهكت القوانين و ضاعت الحريات و دفنت الثورة الى غير رجعه .
ذهبت تضحيات الشعب المصري في مهب الريح ، لم تتغير السياسات ، و بقيت السطوة
الامنيه هي السائده . ازدادت اعمال القمع و الاغتصاب و الاعتداءات . استُحدِثت معتقلات
جديده لعدم استيعاب المعتقلات القديمه لكمية المعتقلين السياسيين .كثر القتل و التشريد
و اهينت كرامة الانسان ،و غاصت البلاد بالفوضى و الاضطراب و البطاله .
حالة نادرة في تاريخ الثورات على مر العصور . بدت الثوره للمراقب من بعيد
انها حققت اهدافها في التغيير و خطت خطواتها الاولى نحو الديمقراطيه و الحريه
و تداول السلطه باختيار الشعب . و ان مصر مقدمة على عصر جديد لم تعرفه في
تاريخها الطويل منذ عهد الفراعنه و الى عهد النظم العسكريه الحاكمه .لا اظن بان
احد خالجه الشك في ذلك ، باستثناء الدوائر التي كانت تخطط و تدبر الامور لقادة
و افراد الثورة المضاده ، من رجال سياسة و ضباط جيش و اعلاميين و رجال المال .
لقد وقعت الثورة بمكيده قل نظيرها ، و هو ما كان يجب ان تتوقعه قيادات الثوره.
و اذا غاب عنهم الامر فانهم كانوا مخطئين . فمن غير المعقول ان تسلم القوى
المعنيه ببقاء مصر ضمن الدائرة الامريكيه الصهيونيه بالهزيمه و تترك مصر
تنهج نهج الاستقلال و المواجهه . مصر لها موقع جغرافي و سياسي مهم في المنطقه
و دورها يؤثر سلبا او ايجابا في العملية السياسية باسرها . فهي الدولة العربيه
الوحيده على حدود قطاع غزة " المتمرده المقاومه " التي لا تتحكم
بها مجموعة اوسلو . و هي مرتبطة باتفاقات مع الكيان الصهيوني ، بما يعني
ان التغيير في هيكلية الدولة سيكون له تبعاته على دولة الاحتلال و يشكل
تهديدا وجوديا عليه . كان المخرج لدى المخططين الذين يرسمون آفاق المرحلة
ان تخمد الثورة حتى لا تكبد المصالح الصهيونيه و الغربيه اية خسائر .
و كان على بعض الدول النفطيه التي تخشى على انظمتها القبليه ان تقدم
الدعم المادي و السياسي من اجل القضاء على الثوره التي تهدد استمرار وجودها.
لانجاح مشروعهم و اظهاره مشروع قائم على عوامل داخليه بحته ، اوجدوا
منافسين اقوياء للمرشح الذي يمثل الثوره . فكان هذا في عمرو موسى و البرادعي
و احمد شفيق . و الاخير هو الافضل كونه جزء لا يتجزأ من تركيبة النظام
السابق و له خلفيه عسكريه تعتبر مهمه في الحالة المصريه . و هو ايضا
الاقدر على لملمة مؤيدي مبارك ، و لن يغير في السياسة الداخليه و الخارجيه
على وجه لا تقبله القوى الاقليميه و الدوليه الساعيه لمنع التغيير في مصر .
هذه المرة ايضا قال الشعب المصري كلمته ، اختار الافضل حسب رؤيته .
هذا كان يعني ان كل المخططات التي عُمل عليها لم تحقق الهدف .
من تسليم السلطه للمجلس العسكري خلال المرحلة الانتقاليه ، الى اصطفاف
كافة القوى من علمانيه و قوميه الى اسلاميه " سلفيه و أشعريه " في وجه
المرشح محمد مرسي ، و الوقوف الى جانب مندوب النظام المخلوع
احمد شفيق بكافة الامكانات . ضاعت جهودهم هباء و فاز الرجل الذي يمثل
الحزب المقبول شعبيا و المكروه من الساسة المحليين و حلفائهم الاقليميين .
لم يبق في مخزن المسدس الا طلقة واحده ، لا بد من اطلاقها مهما كانت النتيجه .
حتى لو وصل الامر الى ضرب المسار الديمقراطي و اختيارات الشعب .
حتى لو انتشرت الفوضى و اعمال العنف . ، حتى لو عادت مصر عشرات
السنين الى الوراء .لن يترك الرجل الاسلامي في وضع مستقر و لا ليوم
واحد ، و لن يسمح له بالبقاء لفترته القانونيه مهما كان الثمن ،
لان الدوائر الصهيونيه و الامريكيه و معهم اصحاب المليارات من العرب
لا يثقون بما ستؤول اليه الامور لو تركوه لفترته . لا يتصورون كيف
ستكون الحالة مع كيان الاحتلال ، و كيف سيكون حال النظم العشائريه
المتخلفه . ما الذي ستحققه الثورات العربيه في البلدان الاخرى .كيف ستتطور
قوة المقاومه في غزه ؟ لهذا فعلا استخدموا الطلقة الاخيره فكان الانقلاب ،
و دخلت مصر في دوامة من العنف و الازمات الاقتصاديه و السياسيه ، و سالت
الدماء و غاب القانون و القضاء . دخل الابرياء الى المعتقلات ، حوكم المئات
بالاعدام في سابقه لا مثيل لها بتهمة التخابر مع المقاومة الفلسطينيه . و ظهر
في تلك الاحكام الحقد و الكراهيه لدى القضاة ، و كأنهم يريدون اجتثاث
قوة جماهيريه راسخة في وجدان الشعب و في صفحات التاريخ المعاصر للبلد .
في ذات الوقت حكم بالبراءة على من استغل البلاد لمدة ثلاثين عاما
و اهان الوطن و اهدى ثرواتها للاحتلال و قتل المتظاهرين في الشوارع ،
و تعامل مع الاحتلال . خسر الشعب المصري ثورته العملاقة
و خسرت الامة تجربه ديمقراطيه لو نجحت لاسست لمستقبل افضل
و لخرجت الامة من تبعيتها و ازماتها السياسيه و الاقتصاديه .