يخلق غابرييل غاريسيا ماركيث في " مائة عام من العزلة " ، شخصية خوزيه أركاديو بوينديا مدشّناً ومؤسساً قرية أسماها ماكاندو ، بقيت ماكاندو طويلاً بلا سلطة حكمة أو جهاز إداري يدير حياة الناس ،وأثبت أهالي القرية قدرتهم على الإدارة المحلّية ، إلى أن أرسلت الحكومة الدون أبولينار موسكوت وفتح مكتب داخل ماكندو ، وأخذ يصدر بعض الفرامانات التي من شأنها أن تغيّر أعراف وقيم ماكاندو ومنها على سبيل المثال طلاء كافة البيوت باللون الأزرق ، فما كان من خوزيه أركاديو بوينديا"آخذاً شرعيّته من الناس" إلاّ أن تصدّى للمرسوم ومزّقه كاسراً هيبة موسكوت" وشرعيته من قبل السلطات" بما يمثّل كمسؤول عن إدارة الحكم داخل ماكاندو ، وبعد عدة أعوام إستطاع مع جنوده فرض سيطرته على القرية وتسيير دوريات داخل ، ما أدّى إلى التضييق على حياة الناس.
بعد عدّة أعوام ظهر في البلاد جماعة أطلقوا على أنفسهم "الأحرار" ، مطالبين بالعدل والمساواة وفصل الكنيسة عن السلطة ، وكان إبن خوزيه أركاديو بوينديا ، "أوريليانو" من أول المتأثرين بأفكار الأحرار ، أما السلطات فقد إعتبرت الأحرار مخربين يحملون أجندات تنوي تقسيم البلاد إلى فيدراليات ، و هذا ما يحدث عادةً مع من يطرح نظرية تغيير ، ( الثورة الفرنسية ، الثورة الجزائرية وحزب مصالي الحاج قبل الدخول بمفاوضات مع المستعمر ، الفدائيين الفلسطينيين عند إصدار جريدة فلسطيننا قبل إنطلاق الثورة ، تجارب الحراك العربي في بداياته وقبل إنحرافه فعلاً عن المسار، ......).
بعد أعوام نجح حزب الأحرار في خوض ثورة ضد السلطة الحاكمة ، ونُصّب أوريليانو زعيماً للثورة في البلاد ، فيما قاد العمل الثوري في ماكاندو أخاه أركاديو ، وإستطاع الثوار طرد موظفي البلدية ورجال الأمن لتعود ماكاندو إلى حالتها الطبيعية "الإدارة المحليّة ، وبعد ذلك بأعوام بدأ أركاديو بإصدار قرارات تحت شعار "حماية الثورة" ، بل بدأ يتجول داخل ماكاندو بحراسة مشددة ، بعدها تمت مصادرة أراضي الأهالي وممتلكاتهم بحجة "معرفته بإحتياجات الثوار" ، فبدأت الناس تفقد ثقتها بأركاديو كقائد ثوري ، وأصبح حكم الثوار للقرية شبيه بحكم السلطة للقرية من ناحية القمع والتجول والتسلط.
كل تلك الممارسات أتت بإسم الثورة ، ثم إنحرف أركاديو والثوّار عن ما كان يطمح إليه الأهالي ، وبات أركاديو شبيه موسكوت المبعوث من قبل السلطة سابقاً.
تجربة ماكاندو هي توصيف لحال المخيمات الفلسطينية اليوم ، ثمّة ثوّار فعلاً قدموا الكثير للقضية معبّدين طريق الحرّية بالدم في البداية ، في حين إعتبرتهم السلطات أنذاك (الأردنية واللبنانية وأخرى) مرتزقة وأصحاب أجندات ، كما وصفت السلطات في ماكاندو حزب الأحرار كذلك ، كان أهالي المخيمات حينها يرون في تلك الثورة خلاصهم من سلوك المكتب الثاني وقمعه ( لعب المكتب الثاني دور موسكوت) ، فأعطوا الفدائيين ثقتهم ، ومع الوقت أستشهد الثوار الحقيقيون فيما سُجِن آخرين ، لنقف اليوم أمام شخصيات مستنسخة من أركاديو ، فبأسم الثورة والفدائيين سيطر هؤلاء على ممتلكات الثورة ، ومارسوا سلوك أركاديو في حكم المخيمات ، فعاث الفساد فيها ، وفي كل مرّة يتم إنتقادهم ، يواجهون المتلقي بأسم الثورة والتاريخ النضالي (الذي يقدّر فعلاً) .
في لبنان اليوم ١٢ ماكاندو ، و٣٠٠ أركاديو ، وحوالي ٢٥٠ ألف لاجىء فقدوا ثقتهم بمن يدير حكم المخيمات بهذه الطريقة ، يطلبون الكف عن الفساد وإدارة المخيمات بطريقة تلبّي طموح الناس من ناحية إجتماعية وسياسية وأمنية ، فيما ينظر "الثوار السابقين" إلى كل من يطمح بالتغيير الإيجابي ، كنظرة السلطات إلى حزب الأحرار في ماكاندو، و نظرة الدول العربية للفدائيين سابقاً ، كأنّ المخيمات تعيش على كوكب آخر ، لا تجربة ديموقراطية واحد تسجّل في إختيار إداريّي الحكم منذ تأسيس المخيمات حتى اليوم ، ولا مجال بالنسبة "للثوار السابقين" لأيّ كان في المشاركة بصنع القرار المحلّي ، وغيرها من الممارسات التي تلقيناها إلينا بأسم الثورة والنضال .
الكثير من التجارب التاريخية تثبت أن لا ثورة ممكن أن تستمر إذ لم تستمد قوتها من قوّة الشارع ، وكي يبقى محطة للعودة لفلسطين كاملة ، على كافة "الثوار السابقين" إما صياغة نظرية ثورية جديدة تلبّي طموح الناس وبوصلتها فلسطين ، وإما الإستيقاظ من نشوة التجربة السابقة وكابوس إنتصار الفلسطيني على الفلسطيني نفسه، وإلاّ ستتحول حالة عدم الثقة وإستياء الأهالي مع الوقت ، إلى كرة ثلج كبيرة ، تتدحرج على أدراج مكاتب موسكوت في المخيمات .
وائل فرغاوي